صانعو السوق:
إليك هذه الطرفة التي حدثني بها الزميل الدكتور محمد بني عيسى، وأنا أنقلها لك بتصرف وظيفي غير مخل:
إن محتالاً أراد أن يسطو على مدّخرات القرية التي يعيش فيها، لكنه أدرك أن ليلة واحدة لا تكفي للسطو على بيوت القرية، مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر افتضاح أمره؛ فعمد إلى مغلفات صغيرة وشفافة ملأها ترابا وكتب عليها بخط أنيق: (تراب خالص: السعر دينار واحد!!) وعرضها للبيع. إن أحداً لا غرض له بهذا التراب والمتصور أن لا أحد يأخذه مجاناً فضلاً عن أن يشتريه بدينار.
لكن المحتال استطاع أن يقنع أحد المسترسلين بأن يشتري واحدا منها، وأكّد له أنه لن يخسر بصفقته هذه، فحصل اللامعقول واشترى المسترسل كيس التراب.
وفي الليل أرسل المحتال إلى ذاك المسترسل من يشتري منه كيس التراب بدينارين دفعهما له بلا تردد وأخذ الكيس ومضى.
وفي الصباح عاد الرجل المسترسل وبيده ديناران واشترى من البائع المحتال كيسين بلا تردد، وجاءه زائر الليل واشتراهما منه بضعف السعر!!.
ثم يلبث أن انتشر الخبر وتسامع الناس عن أرباح المتاجرة بأكياس التراب، وسريعاً اتسع سوقها وكثر رواد المتجر الذي يجهزها، بل وكثر وكلاؤه: إن أكياسه التي يشترونها منه في النهار بدينار يبيعونها إلى مجهول في الليل بدينارين!!.
واستمرت سوق التراب بالاتساع وزادت حجوم معاملاتها حتى استوعبت مدّخرات القرية ... عندها، وفي ليلة دامسة وبعد أن باع المحتال في النهار أكبر كمية من التراب قرر الهروب من القرية بعد أن جمع ما استطاع جمعه من نقود أبنائها،... وفي الليل ظل هؤلاء المتاجرون الفطنون في انتظار العملاء المجهولين الذين سيقدمون ويطلبون أكياس التراب بضعف السعر، لكن أحداً لم يأت...!!. وهكذا استطاع محتال القرية أن يصنع بذكائه سوقاً للتراب، لا للدولار ولا لليورو ولا لبراميل البترول ولا لبواشل الزيت ولا لمؤشرات الأسواق؛ فهل يعجز محتالو البورصة عن مجاراته؟!.
لعلك أدركت عزيزي القارئ من هذه الطرفة كيف تصنع الأسواق، والسؤال ليس عن آلية صناعتها ولا عن حجوم معاملاتها، إنما عن مغزى تلك الأسواق وفائدتها للاجتماع الإنساني. إن أنصار سوق العملات يريدون أن يقنعونا أن سوق التراب التي صنعها المحتال لها من الأهمية ما لسوق القمح والزيت، إنهم يريدون أن يقنعونا أن الحراثة في البحر معقولة ومنطقية مثل حراثة حقول القمح طالما كانت تعطي لمتعاطيها بعض المكاسب، ونحن لا نجحد هذه المكاسب لكننا نجحد أي بعد عقلاني لهذه التجارة ونؤكد عبثيتها ومخالفتها لمصالح الشعوب، ونقول فيها ما قال ربنا تعالى في الخمر والميسر تقريرا: " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، ونقول فيهما ما قال ربنا تعالى خطابا تكليفيا: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه".
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين.
المصدر:للمقالة (1،2،3،4)موقع الاستاذ الدكتور عبد الجبار حمد عبيد السبهاني
http://faculty.yu.edu.jo/Sabhany